فصل: تفسير الآيات (35- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 36):

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)}
قوله: {إِنَّ المسلمين} بدأ سبحانه بذكر الإسلام الذي هو مجرّد الدخول في الدين والانقياد له مع العمل، كما ثبت في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإسلام قال: «هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان» ثم عطف على المسلمين {المسلمات} تشريفاً لهنّ بالذكر، وهكذا فيما بعد وإن كنّ داخلات في لفظ المسلمين والمؤمنين ونحو ذلك. والتذكير إنما هو لتغليب الذكور على الإناث كما في جميع ما ورد في الكتاب العزيز من ذلك. ثم ذكر {المؤمنين والمؤمنات} وهم من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقانت: العابد المطيع، وكذا القانتة. وقيل: المداومين على العبادة والطاعة. والصادق والصادقة هما من يتكلم بالصدق، ويتجنب الكذب ويفي بما عوهد عليه. والصابر والصابرة هما من يصبر عن الشهوات وعلى مشاق التكليف، والخاشع والخاشعة هما المتواضعان لله الخائفان منه الخاضعان في عباداتهم لله. والمتصدّق والمتصدّقة هما من تصدّق من ماله بما أوجبه الله عليه. وقيل: ذلك أعمّ من صدقة الفرض والنفل، وكذلك الصائم والصائمة، قيل: ذلك مختصّ بالفرض، وقيل: هو أعمّ. والحافظ والحافظة لفرجيهما عن الحرام بالتعفف والتنزّه، والاقتصار على الحلال. والذاكر والذاكرة هما من يذكر الله على أحواله، وفي ذكر الكثرة دليل على مشروعية الاستكثار من ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان، واكتفى في الحافظات بما تقدّم في الحافظين من ذكر الفروج، والتقدير: والحافظين فروجهم والحافظات فروجهن، وكذا في الذاكرات، والتقدير: والذاكرين الله كثيراً والذاكرات الله كثيراً، والخبر لجميع ما تقدّم هو قوله: {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} أي مغفرة لذنوبهم التي أذنبوها، وأجراً عظيماً على طاعاتهم التي فعلوها من الإسلام والإيمان، والقنوت، والصدق والصبر والخشوع، والتصدق والصوم والعفاف والذكر. ووصف الأجر بالعظم للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ، ولا شيء أعظم من أجر هو الجنة ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد، اللهم اغفر ذنوبنا وأعظم أجورنا.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} أي ما صحّ ولا استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين، ولفظ ما كان وما ينبغي ونحوهما معناها: المنع والحظر من الشيء والإخبار بأنه لا يحل أن يكون شرعاً، وقد يكون لما يمتنع عقلاً كقوله: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] ومعنى الآية: أنه لا يحلّ لمن يؤمن بالله إذا قضى الله أمراً أن يختار من أمر نفسه ما شاء، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء، ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله عليه واختاره له، وجمع الضميرين في قوله: {لهم} و{من أمرهم}: لأن مؤمن ومؤمنة وقعا في سياق النفي فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة.
قرأ الكوفيون: {أن يكون} بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد لأنه قد فرّق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله: {لهم} مع كون التأنيث غير حقيقي، وقرأ الباقون بالفوقية لكونه مسنداً إلى الخيرة وهي مؤنثة لفظاً. والخيرة مصدر بمعنى الاختيار. وقرأ ابن السميفع {الخيرة} بسكون التحتية، والباقون بتحريكها. ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره، فقال: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في أمر من الأمور، ومن ذلك عدم الرضا بالقضاء {فَقَدْ ضَلَّ ضلالا مُّبِيناً} أي ضلّ عن طريق الحق ضلالاً ظاهراً واضحاً لا يخفى.
وقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أمّ سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول: «إن الله يقول: {إِنَّ المسلمين والمسلمات}» إلى آخر الآية.

وروي نحو هذا عنها من طريق أخرى أخرجها الفريابي وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، والطبراني وابن مردويه عن أمّ عمارة الأنصارية؛ أنها أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كلّ شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية: {إِنَّ المسلمين والمسلمات}.
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه بإسناد، قال السيوطي: حسن، عن ابن عباس قال: قالت النساء: يا رسول الله ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات؟ فنزلت: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآية.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية، فخطبها، قالت: لست بناكحته، قال: «بلى فانكحيه»، قالت: يا رسول الله، أؤامر نفسي، فبينما هما يتحدّثان أنزل الله هذه الآية على رسوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} الآية، قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحاً؟ قال: «نعم»، قالت: إذن لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي.
وأخرج نحوه عنه ابن جرير من طريق أخرى.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب: «إني أريد أن أزوّجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك»، قالت: يا رسول الله، لكني لا أرضاه لنفسي، وأنا أيم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل، فنزلت هذه الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} يعني: زيداً {وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} يعني: زينب {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً} يعني النكاح في هذا الموضع {أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} يقول: ليس لهم الخيرة من أمرهم خلاف ما أمر الله به {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالا مُّبِيناً} قالت: قد أطعتك فاصنع ما شئت، فزوّجها زيداً ودخل عليها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: نزلت في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أوّل امرأة هاجرت فوهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوّجنا عبده.

.تفسير الآيات (37- 40):

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)}
لما زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مرّ في تفسير الآية التي قبل هذه أنزل الله سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أي واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه وهو زيد بن حارثة، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أعتقه من الرق، وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه، وسيأتي في بيان سبب نزول الآية في آخر البحث ما يوضح المراد منها. قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوّجها هو، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له: «اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك»، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف. انتهى. {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} يعني زينب {واتق الله} في أمرها، ولا تعجل بطلاقها {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} وهو نكاحها إن طلقها زيد. وقيل: حبها {وَتَخْشَى الناس} أي تستحييهم، أو تخاف من تعبيرهم بأن يقولوا أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوّجها {والله أَحَقُّ أَن تخشاه} في كل حال وتخاف منه وتستحييه والواو للحال، أي تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس. {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً} قضاء الوطر في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء، يقال: قضى وطرا منه: إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها الرائح المجدّ ابتكارا ** قد قضى من تهامة الأوطارا

أي فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه. والمراد هنا: أنه قضى وطره منها بنكاحها والدخول بها بحيث لم يبق له فيها حاجة. وقيل: المراد به: الطلاق؛ لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة.
وقال المبرد: الوطر: الشهوة والمحبة، وأنشد:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما ** قضى وطراً منها جميل بن معمر

وقال أبو عبيدة: الوطر: الأرب والحاجة، وأنشد قول الفزاري:
ودّعنا قبل أن نودّعه ** لما قضى من شبابنا وطرا

قرأ الجمهور: {زوجناكها} وقرأ عليّ وابناه الحسن والحسين زوّجتكها فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في النكاح في حق أمته.
وقيل: المراد به. الأمر له بأن يتزوّجها. والأوّل أولى، وبه جاءت الأخبار الصحيحة. ثم علل سبحانه ذلك بقوله: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ} أي ضيق ومشقة {فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أي في التزوّج بأزواج من يجعلونه ابناً كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا يتبنون من يريدون، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال: زيد بن محمد، حتى نزل قوله سبحانه: {ادعوهم لاِبَائِهِمْ} وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليه نساء من تبنوه، كما تحرم عليه نساء أبنائهم حقيقة. والأدعياء جمع دعيّ، وهو الذي يدعي ابناً من غير أن يكون ابناً على الحقيقة، فأخبرهم الله أن نساء الأدعياء حلال لهم {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} بخلاف ابن الصلب، فإن امرأته تحرّم على أبيه بنفس العقد عليها {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء ماضياً مفعولاً لا محالة.
ثم بيّن سبحانه: أنه لم يكن على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرج في هذا النكاح، فقال: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي فيما أحلّ الله له وقدّره وقضاه، يقال فرض له كذا، أي قدّر له {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي إن هذا هو السنن الأقدم في الأنبياء والأمم الماضية أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر النكاح وغيره {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} أي قضاء مقضياً. قال مقاتل: أخبر الله أن أمر زينب كان من حكم الله وقدره، وانتصاب {سنة} على المصدر، أي سنّ الله سنة الله، أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب بجعل أو بالإغراء. وردّه أبو حيان بأن عامل الإغراء لا يحذف.
ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم فقال: {الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله} والموصول في محلّ جر صفة {للذين خلوا} أو منصوب على المدح، مدحهم سبحانه بتبليغ ما أرسلهم به إلى عباده وخشيته في كل فعل وقول، ولا يخشون سواه، ولا يبالون بقول الناس ولا بتعييرهم، بل خشيتهم مقصورة على الله سبحانه: {وكفى بالله حَسِيباً} حاضراً في كل مكان يكفي عباده كل ما يخافونه، أو محاسباً لهم في كل شيء.
ولما تزوّج صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس: تزوّج امرأة ابنه، فأنزل الله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} أي ليس بأب لزيد ابن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته، ولا هو أب لأحد لم يلده.
قال الواحدي: قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد له من الذكور إبراهيم والقاسم والطيب والمطهر. قال القرطبي: ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلاً. قال: وأما الحسن والحسين فكانا طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له {ولكن رَّسُولَ الله} قال الأخفش والفراء: ولكن كان رسول الله، وأجازا الرفع. وكذا قرأ ابن أبي عبلة بالرفع في رسول وفي خاتم على معنى: ولكن هو رسول الله وخاتم النبيين، وقرأ الجمهور بتخفيف {لكن}، ونصب {رسول} و{خاتم}، ووجه النصب على خبرية كان المقدرة كما تقدّم، ويجوز أن يكون بالعطف على {أبا أحد}. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بتشديد {لكن} ونصب {رسول} على أنه اسمها وخبرها محذوف، أي ولكن رسول الله هو. وقرأ الجمهور: {خاتم} بكسر التاء. وقرأ عاصم بفتحها. ومعنى القراءة الأولى: أنه ختمهم، أي جاء آخرهم. ومعنى القراءة الثانية: أنه صار كالخاتم لهم الذي يتختمون به ويتزينون بكونه منهم. وقيل: كسر التاء وفتحها لغتان. قال أبو عبيد: الوجه الكسر؛ لأن التأويل: أنه ختمهم فهو: خاتمهم، وأنه قال: {أنا خاتم النبيين}، وخاتم الشيء آخره، ومنه قولهم: خاتمة المسك.
وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْء عَلِيماً} قد أحاط علمه بكل شيء، ومن جملة معلوماته هذه الأحكام المذكورة هنا.
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اتق الله وأمسك عليك زوجك}، فنزلت: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه الآية، فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زوجناكها} فكانت تفخر على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم تقول: زوّجكنّ أهاليكنّ وزوّجني الله من فوق سبع سماوات.
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت عدّة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: «اذهب فاذكرها عليّ»، فانطلق، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب، أبشري أرسلني رسول الله يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس، وبقي رجال يتحدّثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته، فجعل يتتبع حجر نسائه يسلم عليهنّ ويقولون: يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر، فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] الآية.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} يعني بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} يعني بالعتق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوّجها قالوا: تزوّج حليلة ابنه، فأنزل الله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين}، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله: {ادعوهم لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} يعني: أعدل عند الله.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي في قوله: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} قال: يعني يتزوّج من النساء ما شاء هذا فريضة، وكان من قبل من الأنبياء هذا سنتهم، قد كان لسليمان بن داود ألف امرأة، وكان لداود مائة امرأة.
وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج في قوله: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} قال: داود: والمرأة التي نكح وزوجها واسمها اليسية، فذلك سنة في محمد وزينب {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} كذلك من سنته في داود والمرأة والنبي وزينب.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} قال: نزلت في زيد بن حارثة.
وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً، فانتهى إلاّ لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلاّ موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلاّ موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة حتى ختم بي الأنبياء».
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه.
وأخرج أحمد، والترمذي وصححه من حديث أبيّ بن كعب نحوه أيضاً.